الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ جَهْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِأَعْلَى الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضْوَانِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجَنَّتِهِ.

وَالْإِنْسَانُ فِي أَصْلِهِ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَدَوَاتِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ؛
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النَّحْلِ: 78]. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِجَهْلِهِ قَدْ يُسَخِّرُ أَدَوَاتِ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَيُعَطِّلُهَا عَنِ اكْتِسَابِ مَا يَنْفَعُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: 102].

وَكُلُّ فَسَادٍ يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَمَرَدُّهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ؛
﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الْأَحْزَابِ: 72]، وَالْجَهْلُ هُوَ سَبَبُ الظُّلْمِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ هُوَ سَبَبُ الْهَوَى؛ إِذْ لَوْ عَرَفَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَا رَكِبَ هَوَى نَفْسِهِ، مُخَالِفًا شَرْعَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ عَرَفَ مِقْدَارَ نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ فِي الظُّلْمِ، فَكُلُّ هَوًى وَظُلْمٍ فَمَرَدُّهُ إِلَى الْجَهْلِ؛ وَلِذَا حَذَّرَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَقْوَامَهُمْ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ سُبْحَانَهُ يَعْنِي الْجَهْلَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْجَهْلَ بِثَوَابِهِ لِلطَّائِعِينَ، وَعِقَابِهِ لِلْعَاصِينَ، وَالْجَهْلَ بِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَالْجَهْلَ بِشِدَّةِ بَطْشِهِ، وَسُرْعَةِ انْتِقَامِهِ، وَأَلِيمِ عِقَابِهِ.

وَدَعَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، وَعَلَّمَهُمْ مَنْ هُوَ رَبُّهُمْ عَزَّ فِي عُلَاهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ مَا رَفَضُوا دَعْوَتَهُ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ، وَجَهْلِهِمْ بِنُفُوسِهِمُ الضَّعِيفَةِ الْمَخْلُوقَةِ الْمَرْبُوبَةِ؛ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [هُودٍ: 29]. وَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَأُغْرِقُوا كَانَ ابْنُ نُوحٍ فِيمَنْ أُغْرِقَ، فَأَخَذَتْهُ عَاطِفَةُ الْأُبُوَّةِ تُجَاهَ ابْنِهِ، وَأَرَادَ الشَّفَاعَةَ لَهُ، فَوَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَحَذَّرَهُ مِنَ الْجَهْلِ، فَامْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْعِظَةَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَسَأَلَهُ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ:
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هُودٍ: 45-47].

وَوَصَفَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ بِالْجَهْلِ قُبَيْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَرَفَضُوا دَعْوَةَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [الْأَحْقَافِ: 22-23].

وَوَصَفَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا دَعْوَتَهُ، وَأَصَرُّوا عَلَى الشِّرْكِ، وَرَكِبُوا الْفَوَاحَشَ؛
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النَّمْلِ: 54-55].

وَوَصَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْجَهْلِ حِينَ أَرَادُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 138-139]. وَاسْتَعَاذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْجَهْلِ:
﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 67].

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمن، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.