دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْبَغْيَ سَبَبَانِ لِلْوَبَاءِ، فَفِي الْحَدِيثِ:
"لم تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ المُوتَانُ".
فَالْأَوَّلُ وَبَاءٌ، وَالثَّانِي قَتْلٌ، وَكِلَاهُمَا مَكْتُوبٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَكْثُرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي المِائَةِ الْأُولَى لِلْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَرْبَعَةُ طَوَاعِينَ، ابْتُلِيَ بِهَا النَّاسُ آنَذَاكَ، فَطَاعُونٌ وَقَعَ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ عَامَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَكِنَّهُ أَصَابَ بِلَادَ فَارِسٍ، وَسَلِمَ مِنْهُ المُسْلِمُونَ فِي المَدِينَةِ؛ لِأَنَّ المَدِينَةَ حُرِّمَتْ عَلَى الطَّاعُونِ، لَكِنْ قَدْ يُصِيبُهَا وَبَاءٌ غَيْرُ الطَّاعُونِ.
وَالطَّاعُونُ الثَّانِي: طَاعُونُ عَمَوَاسَ فِي الشَّامِ، وَاسْتُشْهِدَ فِيهِ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَشْهَرُهُمْ: مُعَاذٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَحَصَدَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَفْسٍ.
وَالطَّاعُونُ الثَّالِثُ: طَاعُونُ الْجَارِفِ فِي دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ، سُمِّيَ الْجَارِفَ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ، وَسُمِّيَ المَوْتُ جَارِفًا لِاجْتِرَافِهِ النَّاسَ، هَلَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَمَاتَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ ابْنًا، وَيُقَالُ: ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ. وَمَاتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ أَرْبَعُونَ ابْنًا، وَمَاتَ لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ ثَلَاثُونَ ابْنًا، وَمَاتَ لِصَدَقَةَ بْنِ عَامِرٍ سَبْعَةُ بَنِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَدَخَلَ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ سُجُّوا جَمِيعًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي مُسْلِّمٌ مُسَلِّمٌ.
وَالطَّاعُونُ الرَّابِعُ: كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَيُسَمَّى طَاعُونَ الْفَتَيَاتِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِي الْعَذَارَى وَالْجَوَارِي بِالْبَصْرَةِ وَبِوَاسِطَ وَبِالشَّامِ وَبِالْكُوفَةِ، وَمَاتَ فِيهِ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةُ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، وَيُسَمَّى أَيْضًا: طَاعُونَ الْأَشْرَافِ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ فِيهِ مِنَ الْكُبَرَاءِ.
وَتَتَابَعَتِ الْأَوْبِئَةُ وَالطَّوَاعِينُ عَبْرَ الْقُرُونِ، وَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ كَثْرَةِ المُوتَانِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ فَنَاءَ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، أَيِ: الْقَتْلُ وَالْوَبَاءُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَفِي عَصْرِنَا هَذَا ظَهَرَتْ أَوْبِئَةٌ مَا كَانَتْ تُعْرَفُ مِنْ قَبْلُ؛ كَالْإِيدْزِ وَالسَّارِسِ وَجُنُونِ الْبَقَرِ وَأنْفِلُوَنْزَا الطُّيُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَأَيبُولَا وَكُورُونَا وَغَيْرِهَا، حَتَّى إِنَّ مُنَظَّمَةَ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةِ سَجَّلَتْ فِي خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَقَطْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَمِائَةِ وَبَاءٍ فِي مَنَاطِقِ الْعَالَمِ المُخْتَلِفَةِ، وَيَأْذَنُ اللهُ تَعَالَى بِالسَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا، وَاكْتِشَافِ اللِّقَاحَاتِ لَهَا، وَإِذَا أَذِنَ بِفَنَاءِ جَمْعٍ مِنَ الْبَشَرِ فِيهَا عَجَزُوا عَنِ السَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا، وَللهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].