علامات القلب الميت
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
[آل عمران: 102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
[النساء: 1]،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
[الأحزاب: 70-71]،
أمَّا بعدُ:
عبادَ اللهِ: إنَّ مدار الأعمال على القلب، فبه تصلح الأعمال أو تفسد، بل لا تُقبل الأعمال أيًّا كانتْ إلا إذا صلح القلب؛ فهو مَلِكُ الجوارح، فلا تعمل الجوارح شيئًا إلا بأمره؛ قال عليه الصلاة والسلام: “ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحَتْ صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدَتْ، فسَد الجسد كله، ألاَ وهي القلْبُ“(رواه البخاري ومسلم)،
فهو ملكها، وهي جنوده المنفذِّة لما يأمرها به، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسئول عنها كلها؛ لأن كلَّ راعٍ مسئول عن رعيته، فكان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أَوْلَى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهمّ ما تنسَّكَ به الناسكونَ، فإن لم يسدد ويصلح مَرِضَ واعتلَّ، فإن أهمل وتُرك هلَك ومات، وحينئذ يصعب الدواء ويشتد الداءُ، فهو قلب ميت بين جَنْبَيْ حيِّ، كَثُرَ داؤه وصعب دواؤه.
والقلب الميت كما قال ابن القيم -رحمه الله-: “هو الذي لا يعرف ربَّه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو متعبِّد لغير الله حُبًّا وخوفًا، ورجاءً ورضًا، وسخطًا وتعظيمًا، وذُلًّا، ومخالطة صاحب هذا القلب سقم، ومعاشرته سُمّ، ومجالسته هلاك“.
إخوةَ الدينِ: إن القلب الميت قلب استهوته الشهوات فقبع في الدنيا، واعتقد أنَّ لذاتها غاية المنى، فأرخت عليه سدولها بمصائدها، وسقط في شباكها تناوشه أمراضها من غفلة وكسل وفتور، ورياء وحسد، فلم يَعُدْ للموعظة في هذا القلب مجال، ولا للنصيحة مكان، وقد قال تعالى فيمن هذا حاله تشبيهًا له بالموتى في عدم الانتفاع بالمواعظ والآيات:
(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
[الأنعام: 36].
والمعنى: إنما يستجيب لكَ إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماعَ تفهُّم بما تقتضيه العقولُ وتُوجِبُهُ الأفهامُ، وهؤلاء ليسوا كذلك، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لِمَا جَعَلْنَا على قلوبهم من الأكنة، وفي آذانهم من الوقر، ولهذا قال تعالى بعد ذلك:
(والموتى يَبْعَثُهُمُ الله)
فشبَّهَهم بالأموات بجامع أنهم جميعًا لا يفهمون الصواب، ولا يَعْقِلُونَ الحقَّ.
إن موت الجسد يقطع المرءَ عن الدنيا، أما موت القلب فيقطعه عن الدنيا والآخرة، ويشقى العبد بذلك أبدَ الآبادِ، قال بعض السلف: يا عجبًا للناس يبكون على مَنْ مات جسدُه، ولا يبكون على مَنْ مات قلبه وهو أشد؛ فلا أخطر على المرء من موات القلب، ولا أبعد في الزيغ والتيه من زيغ القلب وتيهه، وقال بعضهم: “ما اطلع اللهُ على قلبٍ فرأى فيه هَمَّ الدنيا إلا مقته، والمقت أن يتركه ونفسه“.
معاشرَ المسلمينَ: إنَّ صاحب القلب الميت ميتٌ بين الأحياء ولو مشى معهم، فقلبه خَرِبٌ كالبيت المهجور الذي لا تسكنه إلا الهوامّ والحيات، فكذلك القلب الميت لا تسكنه إلا الأوهام والغفلة والشهوات، فحرِيٌّ بالمؤمن أن يحرص على حياة قلبه؛ لئلا يموت فيشقى أبدًا، وحريٌّ به كذلك معرفة علامات وأمارات موت القلب وأسباب ذلك ليتوقاها، ومِنْ تلك العلامات التي تدلّ على موت القلب -سلَّمَكم اللهُ منها وعافاكم-:
نسيان ذِكْر الله، كما قيل:
فنسيانُ ذِكْرِ اللهِ موتُ قلوبِهم *** وأجسامِهم فهي القبور الدوارسُ
وأرواحُهم في وحشةٍ من حبيبهم *** ولكنها عند الخبيث أوانسُ
فذكر الله دليل حياة القلوب، وبه تطمئن،
قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
[الأنفال: 2]،
وقال النبي-صل الله عليه وسلم-: “مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ“، (متفق عليه)، ولمسلمٍ: “مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ“.
ومن علامات موت القلب: الإعراض عن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه -صل الله عليه وسلم- فالقلب الميت مظلمٌ بعيدٌ عن الحقِّ لا يَصِلُ إليه شيءٌ من نور الإيمان، وحقائق الفرقان،
قال تعالى:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)
[الكهف:57].
ومن العلامات الدالة على موت القلب كذلك: عدم التأثر بالعِظَات والآيات، والتثاقل عن فعل المأمورات، قال أحد الصالحين: “الرَّجل: هو الذي يخافُ مِن مَوْتِ قَلْبِهِ لا مِن مَوتِ جَسَدِه“.
جِيءَ للحسن البصري بكوب من ماء ليُفْطِرَ عليه، فلما قرَّبه مِنْ فيه بكى وقال: “ذكرتُ أُمنية أهل النار وقولهَم لأهل الجنان:
(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)[الأعراف:50]،
وذكرتُ ما أجيبوا:
(إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)
[الأعراف: 50].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: “اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في تلك المواطن، فاسأل الله أن يمن عليك بقلب، فإنه لا قلبَ لكَ“.
ومن علامات موت القلب-إخوة الإيمان- إيثارُ الدُّنْيَا على الآخِرَةِ: جاء في الحديث: “بَادِرُوا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا“(رواه مسلم). لـمَّا مات قلبه آثر الدنيا على الآخرة، فأصبح لا يبالي بدينه، فربما قال أو فَعَلَ كُفْرًا من أجل دراهم معدودة.
ومن علامات موت القلب: حُبّ الشهوات،
قال -عز وجل-:
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)
[الكهف: 28]،
فصاحب القلب الميت مُولَع بتتبع الشهوات؛ فهي من أسمى غاياته في هذه الحياة.
معاشرَ المسلمينَ: إنَّ عدم إنكار المنكر والسكوت عنه، لَمِنْ علامات موت القلب: فإن القلب إن كان لا يعرف معروفًا، ولا ينكِر منكرًا، نُكِّسَ، فكان أعلاهُ أسفَلَهُ، كما جاء في الحديث: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ“(رواه مسلم).
ومن علامات موت القلب كذلك: ضِيقُ الصدر، والشُّعورُ بالقَلق والغم،
قال تعالى-:
(وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)
[الأنعام: 125].
إخوةَ الإسلامِ: إن عدم التألُّم لآلام وآهات المستضعفين، وعدم نجدة الملهوفين، وعدم الوقوف مع المظلومين المقهورين، دليلٌ على موت قلب صاحبه وبُعْده عن خالقه ومولاه، فترى ذلك الشخصَ لا يرى إلا مصلحة نفسه، ولا يأنس إلا بتأمين حاجاته ورغباته، والله المستعان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم…