مع دورات الأفلاك، وتقلُّبات الأيام، ترتجِفُ قلوبُ المؤمنين، وتقشعِرُّ جلودُ المُخبِتين؛ فالأعمارُ قصيرةٌ مهما طالَت، والأيام سريعةٌ مهما أبطَأَت. الدنيا مُدبِرة، والآخرةُ مُقبِلة، فاستقبِلوا المُقبِل، ولا يشغلكُم المُدبِر، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، والكيِّسُ من دانَ نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.
إن مُحاسبةَ النفس هي ديدَنُ العاملين المُخلِصين، ونَهجُ عباد الله الصالِحين. انظُروا ماذا ادَّخرتُم ليوم معادِكم، وماذا قدَّمتُم للعرض على ربِّكم؟! فلله كم من الأعمار أمضيتُم؟ وكم من الأحباب فقدتُم؟ وكم من الأقارِب دفنتُم؟ وكم من عزيزٍ في اللُّحود قد وارَيتُم؟ عاجَلتهم آجالُهم، وقطعَ الموتُ آمالَهم، ولعلَّ الله أن يُثيبَهم على صالِح نيَّاتهم، فإنما لكل امرئٍ ما نوَى.
يُقال ذلك - يا عباد الله - والأمةُ الإسلامية تستعِدُّ لاستِقبال هذا الشهر الكريم "رمضان العظيم".
تأمَّلوا هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وصحَّحه الألبانيُّ - رحمهم الله جميعًا -: عن طلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه -، أن رجُلَين قدِما على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إسلامُهما جميعًا - أي: في وقتٍ واحدٍ -، وكان أحدَهما أشدَّ اجتِهادًا من صاحبِه، فغزَا المُجتهِدُ منهما فاستُشهِد، ثم مكثَ الآخرُ بعده سنة، ثم تُوفِّي.
قال طلحةُ: فرأيتُ فيما يرى النائِمُ كأني عند بابِ الجنة، فإذا أنا بهما، وقد خرجَ خارِجٌ من الجنة، فأذِنَ للذي تُوفِّي الآخر منهما، ثم خرج، فأذِنَ للذي استُشهِد، ثم رجعَ إليَّ، فقال: ارجِع فإنه لم يأنِ لك بعدُ. فأصبحَ طلحةُ يُحدِّثُ به الناس، فتعجَّبُوا لذلك - أي: تعجَّبُوا كيف أن الذي لم يُجاهِد ولم يُستشهَد دخلَ الجنةَ قبل صاحبِه .
فبلغَ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: "من أيِّ ذلك تعجَبون؟". قالوا: يا رسولَ الله! هذا كان أشدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِد في سبيل الله، ودخلَ هذا الجنةَ قبلَه! فقال - عليه الصلاة والسلام -: "أليسَ قد مكَثَ هذا بعدَه سنة؟". قالوا: بلى، "وأدركَ رمضانَ فصامَه؟". قالوا: بلى، "وصلَّى كذا وكذا سجدة في السنة؟". قالوا: بلى، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فما بينَهما أبعَدُ ما بين السماء والأرض".
الله أكبر يا عباد الله! بينهما أبعَد ما بين السماء والأرض.
إنه الشهر المُبارَك .. كنزُ المُتقين .. وبهجةُ السالِكين .. وراحةُ المُتعبِّدين ..
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
طاعةُ الله شرف .. والوقوفُ بين يدَي الله نعمة .. واغتِنامُ مواسِم الخيرات منَّة، وإن من لُطفِ الله ورحمته أن عوَّض بقِصَر الأعمار ما تُدرَكُ به أعمارُ المُعمَّرين بمئات السنين، وذلك بمُضاعفَة الأجور؛ لشرف الزمان، وشرف المكان، ومواسِم الطاعات.
وشهرُكم شهرٌ عظيمٌ مُبارَك، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرَها فهو المحرُوم.
إنكم تستقبِلون شهرًا عظيمًا مُبارَكًا، تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغلَقُ أبواب النار، وتُصفَّدُ الشياطين، كما جاء في الحديث الصحيح.
وجاء في "السنن": "يُنادِي فيه المُنادِي: يا باغِيَ الخير أقبِل، ويا باغِيَ الشر أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة".
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمن، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.