
الصبر: بمعنى حبس النفس عما ينبغي أن تُحبس عنه، فهذا التعريف يقرب معناه، وتفاسير أهل العلم في ذلك كثيرة: فمنهم من يفسره ببعض معناه، ومنهم من يفسره بشيء من لوازمه، ومنهم من يفسره ببعض آثاره، وقد مضى الكلام على ذلك مفصلًا في الأعمال القلبية، ولكن ما ذكرته يقرب المعنى، حبس النفس عما ينبغي أن تحبس عنه مما يقتضيه الشرع، وحينما نقول: مما يقتضيه الشرع فإنه يدخل في ذلك النقل والعقل الصحيح، وذلك أن العقل الصحيح من جملة أدلة الشرع، وبعضهم يقول: حبسها عما يقتضيه العقل أو الشرع، ولا حاجة لهذه المقابلة، الأفضل أن يقال: حبسها عما ينبغي أن تحبس عنه مما يقتضيه الشرع، وذلك بحبسها على طاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وبالصبر على أقداره المؤلمة، وفي كل حال من أحوال هذا الصبر يكون له معنى، فحبس النفس عن الجزع حال المصيبة يقال له: صبر، وحبسها عند الصدمة يقال له: رباطة جأش، وحبسها في ميدان المعركة عند مصاولة الأعداء يقال له: شجاعة، وحبسها عند تحرك دواعي الشهوة يقال له: ثبات، وما إلى ذلك من الألفاظ والأسماء التي يعبر بها عن معنًى يتصل بالصبر في مقام من المقامات.
قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}
قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [آل عمران: 200]، فهذا أمر بالصبر وبالمصابرة، والأمر للوجوب، فالصبر عما حرم الله واجب، والصبر على طاعته واجب، والصبر على أقداره المؤلمة واجب، وهذه كلها من الواجبات، فالصبر بهذا الاعتبار يكون واجبًا، إلا أنه في بعض صوره ومفرداته وحالاته قد يكونُ مستحبًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا.
فالصبر إذا كان على معصية الله سبحانه وتعالى فإنه يكون محرمًا، فقد يصبر الإنسان على أمور لا ترضي الله -تبارك وتعالى، مع ما يلقى من أذى الناس، ومن إنكارهم، ولربما يوصلون إليه أنواعاً من الأذى، ومع ذلك هو ثابت لا يلوي على شيء، فالصبر على المنكر أو على المعصية صبر محرم.
والصبر على الأمور المباحة: كأن يصبر الإنسان حتى يظفر ببغيته من ربح وتجارة، وبيع وشراء، أو تحصيل دين، أو نحو ذلك فهذا من الأمور المباحة، وقد يكون مستحبًا: إذا كان هذا الإنسان يصبر على أمور من محابّ الله سبحانه وتعالى مما لا يجب عليه، أو يصبر عن أمور من الأفعال المكروهة التي لا تحرم، فإذا امتنع عن ذلك وحبس نفسه فإن هذا الصبر يكون مستحبًا، وهكذا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وهذا الأمر للوجوب، ولا شك أن ثمّة قدرًا واجباً من الصبر اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ المصابرة أعظم من الصبر وأبلغ، والأصل أن المفاعلة تكون بين طرفين، ولهذا فُسر
اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ صابروا أي: في مجاهدة الأعداء، ومصاولتهم، ومدافعة الباطل وأهله
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251]، فالأول أمر بالصبر أن يصبر الإنسان على طاعة ربه، يصبر عن معصيته، يصبر على أقداره المؤلمة، ثم هو مأمور بأن يصابر؛ فإنه قد يلقى الأذى، ولابدّ له من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومدافعة لأهل الشر، فهذا يحتاج معه إلى مصابرة.
ا
صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]، فهذه أمور أربعة تكون سببًا للفلاح، يعقبها الفلاح، يصبر الإنسان على مبادئه، ويصابر في مدافعته، ويرابط، وذلك بالثبات، فلا يتخلى، ولا يتراجع، ولا ينهزم، ولا ينكسر، مع تقوى الله -تبارك وتعالى، فإن ذلك حريٌّ أن يحقق الفلاح، وهو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
قال تعالى:
اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. فالصبر هو أحد الركنين، وأحد العمودين اللذيْن يستعان بهما على التحمل لكل الأعباء، والتكاليف، والمشاق، سواء كان ذلك في القيام بوظائف العبودية، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، أو الاستعانة على ما يحصل للإنسان ويلاقي ويكابد من الأقدار المؤلمة، أو كان ذلك بسبب المكابدة في هذه الحياة
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، فهو يكابد دائمًا، ويعاني، يخرج إلى هذه الحياة من بطن أمه باكيًا، ثم بعد ذلك يلقى ما يلقى من حر الصيف، وبرد الشتاء، وما إلى ذلك من أمور كثيرة، سواء في طلب الرزق، أو فيما يلقاه من ألوان الأذى والآلام، هذا كله يحتاج إلى استعانة عليه بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا حزَبَه أمر صلى ، وابن عباس لما نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في طريقه إلى مكة نزل وقرأ هذه الآية: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وصلى ركعتين ، فالإنسان إذا أصابته شدة، أو بلاء، أو مشكلة، أو ضائقة، أو جاءته مصيبة، أو خبر مفزع، أو كارثة ما عليه إلا أن يتوضأ ويصلي ركعتين، سيجد أن نفسه تهدأ وتسكن، ويخف وقع المصيبة عليه، هذا في صلاة ركعتين أيها الأحبة، وهو شيء مشاهد معلوم، وكان النبي ﷺ إذا حزبه أمر صلى، فكيف بمن يحافظ على هذه الصلوات؟ إنه بلا شك يتحمل أكثر من غيره بكثير، يتحمل أعباء الحياة وتكاليفها، وما يحصل فيها من ألوان المتاعب، وأولائك الذين لا يعرفون الله، ولا يعرفون الصلاة سرعان ما ينكسر الواحد منهم، ولذلك تقرأ في التقارير المتنوعة التي تصدر حينًا بعد حين، هناك تقرير صدر في مصر قبل أربع سنوات تقريباً عن المخدرات، وتقرير آخر صدر عن الاكتئاب، فكانت كل هذه التقارير تؤكد أن هؤلاء الذين يبتلون بهذه البلايا لا يكون الواحد منهم من المحافظين على الصلاة، من جهة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن جهة أخرى أن الصلاة تعين على التحمل والصبر، فالإنسان المحافظ على ذلك مباشرة يقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
لفضيلة الشيخ : د / خالد بن عثمان السبت